تعد لوحة "الجورنيكا" التى رسمها بيكاسو اعظم وثيقة ثورية تدين الغشم
والارهاب والنظم القمعية المتسلطة، وقد احتشدت بالرموز والدلالات الواقعية مثل
الحصان الصارخ والثور والاشلاء والمصباح والوجوه المتشنجة.
وعندما دخل مندوب النازي على بيكاسو في بيته بباريس اثناء الحرب
العالمية الثانية لسؤاله عن حاجته من المواد التموينية، رفض بيكاسو هذا العرض، وكان
قد هرب اللوحة الى اميركا خوفا من البطش بها واحتفظ بصورة لها. وعند خروج المندوب
سأله: أهو انت الذي صنعت هذه الصورة ياسيد بيكاسو؟ فرد عليه: بل انتم الذين
صنعتموها! وكان هذا اعظم دليل على خطورة الفن وتأثيره بما يحمل من تعبير، بعيدا عن
التسجيل.
والفنان احمد شيحة تمثل أعماله صورة لمعنى الفن وعلاقته بالثورة وهي
بما تحمل من تعبير درامي تعكس لسحر الابداع، وفي نفس الوقت تجسد روح الخامس
والعشرين من يناير.
في قاعة صلاح طاهر بدار الاوبرا المصرية اقتتح معرضه والذي جاء بعنوان
"مصر اولا" في حضور العديد من نجوم الفن والفكر والمجتمع المصري: الدكتور شاكر
عبدالحميد وزير الثقافة، والدكتور عبدالمنعم كامل رئيس دار الاوبرا، والدكتورة
ايناس عبدالدايم مدير الاوبرا، والكاتب الدكتور سيد ياسين، والفنان جورج البهجوري،
والفنانة رجاء ادريس حرم د. يوسف ادريس، والفنانة هنا شيحة ابنة الفنان وابنيها
ووالدتها، والمخرج طارق التلمساني، وغيرهم.
ضم المعرض 35 لوحة تنوعت في مساحاتها كما تنوعت بدنيا الوسائط العديدة
في آفاق جديدة.
• هو وسيف وانلي
ولد احمد شيحة بكفر الشيخ في عام 1942 لأسرة من الطبقة المتوسطة، تعرف
معنى الثقافة ومعنى الوعى الذي يقود المجتمع، وهناك عاش فترة الطفولة والصبا وسط
المروج الخصراء من زهور البرتقال والبرسيم وخضرة الحقول والاشجار الظلية الكثيفة.
ومع تأملاته لتلك المساحات السعيدة كانت رسومه تنساب بلا توقف تجسد كل ما كان يحيط
به. كما عاش بين الكتب والمجلات وامتلأ بتاريخ مصر القديم وفنون الشرق من الفن
الاشوري والبابلي.
وبعد ذلك انتقلت الأسرة الى مدينة الاسكندرية، وهناك كانت اقامته
بالقرب من منزل الفنان سيف وانلي. وكان لهذا القرب غاية التأثير على اتساع عالمه
فقد تشبع بأفكاره ورؤاه. كما استلهم معه قيم الأداء الرفيع. ومع معايشته لسيف
ودنياه التشكيلية الوارفة. كان هناك أيضا فنان ارميني استقى منه شيحة الاساليب
التكنيكية التي كانت القاعدة التي انطلقت منها ملامح فنه.
وعندما جاء عام 1967 وحدثت نكسة يونيو/حزيران لم يطق شيحة الاقامة، ولم
يحتمل وقع الهزيمة فهاجر طويلا لاكثر من 14 عاما متنقلا من بلد الى بلد محاولا
نسيان ما حدث، وكانت اولى محطاته باريس وهناك التحق بكلية الفنون الجميلة "البوزار"
ومع الدراسة كان يتردد بانتظام على متاحف ومعارض ومنتديات باريس. وكان اللوفر واحته
الفنية التي ينهل منها. يتأمل أعمال الفنانين الكبار بعين واعية ويستوعب الطرز
والأنماط والأساليب، ثم كان انتقاله الى بيروت عام 1970.
• لبنان والتعبير بالرمز
وعندما تصاعدت الأحداث هناك عام 1975 وجد نفسه في بحر من
الامواج المتلاطمة ولم يجد غير فنه والتعبير من خلاله في مواجهة هذه التيارات
المتصارعة. وقد عبر بفرشاته عن احتجاجه وموقفه من هذا الصراع الدامي مجسدا أنَّات
الجرحى وصراع الضحايا في كل مكان، وتحول الى التعبير بالرمز لكل ما يدور حوله.
وكانت لوحاته في تلك الفترة تصرخ بالانتقالات اللونية والخطوط الدرامية السريعة
المتوهجة والتكوينات وليدة اللحظات العصيبة والانفعالات التي عاشها.
يقول: "ان الفن التشكيلي يعد امتدادا حقيقيا لكل الاعمال الجادة التي
تقود الانسان نحو حياة افضل، لأنه إفراز للحظة وابداع لنفس صافية تفيض بالحب والصدق
وتكون ترجمة لكل قضايا الانسان، ولا يمكن للفنان المعاصر أن يفصل نفسه عن ظروف
العالم ويسبح في عالم مجرد من الانفعالات بعيدا عن العواطف الانسانية وينفصل عن
واقع الحياة الدرامية التي تحيطه".
وبعد ان عاد الى مصر بدأ يفتش عن البداية التي سوف يحملها رؤيته
وشخصيته الفنية، خاصة وبداخله الرغبة الكامنة للتعبير عن حبه للأرض التي وهبته
الحياة واستطاع تشكيل عالم جديد مستخدما اللون الواحد بدرجاته، وكان يعمد الى
الاقتصاد اللوني من اجل إحداث طابع يشع بحساسية صوفية. وقد جاء التلخيص والتبسيط
على خلفيات بيضاء تبرز العنصر وتؤكده بشكل أكثر رسوخا في فراغ اللوحة.
• التلوين المجسم
ومن بداية الثمانينيات انتقل شيحة الى مرحلته الجديدة التي اكدت
على عمق فنه والذي امتزج بحداثة الاداء وأصالة المعنى، بحداثة التشكيل وقوة التعبير
في لوحات تألقت بالتلوين والتجسيم او النحت والتصوير في وقت واحد يمكن ان نسميها
التصوير المجسم او النحت التصويري، فى معالجات رصينة تخرج من الطابع البصري العابر
الى طابع آخر تتعدد فيه الأزمنة، يتسم بالسكون الجليل والصمت البليغ مثلما هو مفعم
بالحركة والحيوية. وهنا نطل على ما يوحي بحروف وأشكال واطياف انسانية وانكسارات
غائرة وكائنات بارزة. فيها من روح العرائس والتمائم وفيها من الهمهمات والتعاويذ في
سطوح غنية متعددة الايقاعات تحمل من الحركة الكامنة والطاقة الروحية ما يجعلها تفيض
بالمعاني وتبوح رغم الصمت الظاهري، غارقة في آفاق كونية، مفعمة بالغموض والحس
الميتافيزيقي تنساب بالمشاعر والاحاسيس وتتألق بحالات وأجواء درامية متنوعة من
السطوع الى الخفوت.
وهي هنا تفسر العلاقة بين الاصالة والحداثة وتستلهم التراث بلمسة جديدة
شديدة الخصوصية، يستخدم فيها لدائن وعجائن ومواد مختلطة يلصقها على سطوح لوحاته
تمنح العمل صفة النحت بأبعاده الثلاثية، كما يمزج بين التركيب المعماري الصارم وبين
الاشكال والعناصر التي توحي برموز وأشخاص تذكرنا برسوم الجداريات من الصرحيات
المصرية القديمة.
• مصر اولا
جاءت أحدث لمسة للفنان شيحة بمعرضه الحالي والتي ينتمي بعضها
لما بعد 25 يناير لتحدد المعنى الحقيقي لعلاقة الفن بالثورة، فهي اعمال تعبيرية
تخرج على الطابع التسجيلي قفز بها شيحة على سطوح لوحاته وامتزج إحساسه بسحر الثورة
وقوة اندفاعها.
أما الاعمال التي سبقت 25 يناير فتحمل جنينية الثورة بل تحمل ايضا
مقدماتها بلغة الفن تأكيدا على ان الابداع لديه قدرة على التنبؤ واستشراف المستقبل
بقدر ما لدى الفنان من وعي بهموم مجتمعه وارتباطه بقضايا الانسان عموما خاصة في
واقعنا المعاصر. ومن هنا رسم شيحة في لوحة تنتمي لعام 2006 مشهدا يوحي بالثوار
قادمين من اليمين في مواجهة حائط صد مغلق الى يسار اللوحة، كما صور في تعبير درامي
عميق سفينة نوح في لوحة 2004 بمثابة مفتاح النجاة من الغرق، اشارة الى رمزية هذا
النظام الفاسد الذي ظل طوال ثلاثين عاما.
لقد اكد احمد شيحة على ان الفن سلاح مثلما هو اداه للتغيير ومعنى
الارتقاء بالذوق والتذوق. كل هذا بلغة التشكيل في دنيا من التعبير جمع فيها بين
بلاغة الايقاع وحكمة التكوين وثراء التلوين والتجسيم.
وكان فناننا قد شارك في ملتقى التصوير الدولي بالاقصر مع 15 فنانا من
افريقيا وعشرة فنانين من مصر فى دورته الرابعة يناير 2012 والتي حملت شعار "افريقيا
.. تجليات الهوية" التقوا وتوحدوا مع هذا المشهد التاريخي لحضارة الاجداد. وهنا قدم
بالمعرض لوحة تعد من أجمل اعماله، مسكونة بالرمز تشير في عالمها الى ان طيبة تعد
مركز الكون، مركز العالم، بما تحمل من كنوز التراث الفرعوني والذي يمثل صفحة متسعة
من صفحات الحضارة العالمية، صور فيها الكرة الارضية او كوكبنا الذي نعيش عليه معلقا
في الفضاء فوق ارض طيبة، ارض الاقصر وسط هذا السحر. هنا حيث الحياة والموت وميلاد
الحقيقة: البعث والخلود .. روح امة واحدة موحدة قامت على الزراعة من مياه النيل
"حابي" جالب الخير والحب والعطاء.
وألوان الفنان في اعماله عموما تمثل تجسيدا للارض المصرية فيها البني
الداكن من طمي النيل، وفيها الازرق الذي يرق في مياهه مع لمسات من الاحمر والاخضر
بلون الزروع والنخيل. ويطل العلم المصري ايقونة الثورة في اعمال كثيرة ولكن بشكل
طيفي رمزا لتوهج الثورة واشتعالها والتفاف وتوحد الجموع من الثوار.
ولا تخفى الروح الملحمية التي تسود الاعمال من تلك الكتل البشرية التي
تتلاقى وتتوحد وتلتحم في روح واحدة. وجوه صارخة ضارعة تفيض بقوة الثورة، وأخرى وجلة
متألمة خائفة تسترجع لحظات من الماضي، من الظلام الذي كان قبلها.
لقد جسد شيحة بلغة الفن روح مصر، وصور بورتريها لوجهها الغائم الذي كان
لاكثر من ثلاثين عاما والمضىء الذي بدا يتألق.
يقول أحمد شيحة: "المعرض يمثل مرحلة مهمة في حياتي الفنية، حيث إن
المعاناة التي سبقت ثورة المصريين كانت طويلة ومؤلمة جدا. وأرى أن مصر قادمة إلى
العالم كله لا محالة لتحتل مكانتها التي يجب أن تتبوأها بين الأمم. فهي صاحبة
الحضارة الأولى والرسالة الحقيقية للدنيا كلها.
تحية الى ارواح شهداء مصر وكل المصابين في زحف جموع الشعب المصري نحو
الحريه وإقامة العدل وما تحقق من النصر، ونحن نمر بأيام دقيقة أود لو تأملنا معاً
الطاقة الروحية الهائله التي جمعت كل أبناء الوطن على قلب رجل واحد كانت هذه هي مصر
الخالده الجامعه الموحده التي أشعلت الحضاره في أرجاء الدنيا منذ فجر التاريخ. إنها
مصر الأمه العظيمه الحاضنه لكل من لجأ إليها".
ومن هنا كان الاحتفاء بشيحة في محافل دولية عديدة. وقد عرض بمتحف
لانكستر بعنوان مختارات من الفن المصري المعاصر وقاعة مارتن لوثر كينج بنيويورك
وقاعة وليم جراند استيل بلوس انجلوس.
وقد حصل على تقدير مجلس حكومة كاليفورنيا عن اعماله الفنية، مع رسائل
ترحيب من كل من حاكم كاليفورنيا ونائبه، ومنح العضوية الشرفية من مجلس السناتورات
الاعلى للحزب الجمهوري.
0 Responses to "الثورة والفن في معرض أحمد شيحة"
Leave A Comment :